2016-10-17 | International News

الصرخة الصامتة ليهود ايران .

كيف تكون الحياة ليهودي يعيش ضمن دولة تدعوا لتدمير الدولة اليهودية ؟

انها الساعة الرابعة فجراً، وقاعة المغادرة في اسطنبول مزدحمة ورطبة وتعج بالنشاط على الرغم من الساعة المتأخرة، وأنا أجلس على الأرض بيدي كوب من الشاي ، اشتريته لأشغل يدي بشئ ما بدلاً من أن ترتجف يدي.

قبل ثلاثة أشهر من وصولي منتصف الليل في مطار أتاتورك، وأنا اتخذ  القرار لتقديم طلب للحصول على تأشيرة صحفي للذهاب إلى إيران، دون التفكير في أي وقت بأن الموافقة ستأتيني بالفعل. حلمت بزيارة واحدة من الجماعات اليهودية الأقدم في العالم، لرؤية هذا المجتمع ليس من وراء الحجاب هذه المرة ولكن على أرض الواقع، مع كل الأوراق و المقابلات الشاقة في السفارة التي دفعت العملية إلى الأمام، ظل واقع دخول إيران بعيد عقلي.

dsc02089_cr-1024x769

التواجد الفارسي اليهودي يعود إلى أكثر من 2700 سنة، إلى عهد الإمبراطورية الفارسية عام 539 قبل الميلاد، عندما غزا سايروس  بابل العظمى. ولكن على الرغم من أن أسلاف اليهود فخورين بمجتمعهم اليهودي الفارسي، يبقى يهود إيران معزولين وغير معروفين إلى حد كبير وغير مكتشفين من قبل بقية العالم.
في أوجها، قبيل الثورة الإسلامية،  بلغت أعداد الجالية اليهودية في ايران ما يقرب من 80،000 فرد، وكانت جالية مزدهرة. بأغلبية ساحقة من الطبقة المتوسطة أو فوق المتوسطة، ويفاخر المجتمع اليهودي في ايران بمجموعة واسعة من المؤسسات التعليمية والثقافية إلى جانب لا يقل عن 30 معبد يهودي ناشط في طهران وحدها. في حين أن المجتمع اليهودي القديم نما باطراد تحت حماية الشاه، بينما ادت الثورة الإسلامية الى الهجرة الجماعية، والحد من  المجتمع إلى عشر حجمه الأصلي.

المزايا التي خبرها اليهود في ظل حكم الشاه من الناحية الاجتماعية والاقتصادية، كالعلاقات القوية مع إسرائيل والولايات المتحدة الذان أصبحا من الخصوم في عصر آية الله. كما هو الحال في العديد من العصور المظلمة في التاريخ اليهودي، حيث اتهم اليهود بسرقة الكنوز في البلاد، وتم توزيع نشرات في جميع أنحاء طهران تحث على الانتقام من اليهود. اضافة الى المصادرة الجماعية لثروات اليهود إلى جانب معاداة السامية، والعنف ضد السكان اليهود، كما امتلأت الشوارع بجحافل الناس وهم يهتفون “الموت لأمريكا” و”الموت لإسرائيل”، حيث هرب الكثير من اليهود الفارسيين من البلاد وبذلوا ما في وسعهم معهم لبدء حياة جديدة بعيدا عن الوطن التي كانوا يعيشون فيه.

dsc02100_cr-1024x1024

قرر بعض اليهود الذين بقوا في ايران بعض ثورة اية الله احتضان الثورة والحكام الجدد في البلاد. حيث شارك 5000 منهم  في الترحيب بآية الله الخميني، المرشد الأعلى  في البلاد، عندما عاد من منفاه في باريس يوم 1 فبراير، 1979. لجنة ترحيب اليهودية آنذاك والحاخام الأكبر حملوا لافتات دعم لل آية الله وهتفوا “اليهود والمسلمين إخوة” باعتبارها علامة على الولاء والأمل. إلا أن الأمل لم يدم طويلا،حيث أعدم حبيب الغانيان، الرئيس الرسمي للالجالية اليهودية في إيران، علنا في وقت لاحق من ذلك العام، بتهمة التجسس لصالح إسرائيل. الرحلة نصف فارغة وأنا جالسة مع حجابي أسود، المطوي بعناية في حقيبتي، و سماعاتي المليئة بموسيقى المغني الاسرائيلي ايهود البناي، كما لو أني محتفظة بوسائل الراحة من الوطن حتى آخر لحظة . وبينما كانت الطائرة تهبط تندفع النساء للحمامات  ليضعن على رؤوسهم أغطية قبل الوصول إلى المطار الدولي الإمام الخميني والنظام هو العين الساهرة. وبما أني كنت مسافرة إلى إيران كصحفي، يتعين علي تعيين سائق ومترجم، من العاملين في وزارة الثقافة والارشاد الاسلامي. انها خدمة إلزامية، وهؤلاء الشباب مجبرين على البقاء بجانبي طوال  20يوم من وجودي. يأخذوني من فندقي كل صباح ويرجعوني الى بابه ليلا، وفي نهاية كل يوم هناك تلخيص للمعلومات في الوزارة حيث يكتبون تقرير عما فعلته خلال اليوم و يتحدثون الى كل منا على حدة من أجل التأكد من تطابق قصصنا.

أنا هناك للقاء  الجالية اليهودية، وهذه عملية مكلفة وتستغرق وقتا طويلا للحصول على التصاريح اللازمة للقيام بذلك. طهران هي مركز يهودي في البلاد، والمجتمع هنا تقليدي للغاية يمارس نشاطاته في المدارس الخاصة، والمطاعم، والمؤسسات الدينية، وكذلك عضو البرلمان اليهودي المختار لتمثيل مصالح الجماعة في البرلمان الإيراني. الأقلية اليهودية، التي تتكون الآن مما يقرب من 15،000 فرد مع المجتمعات المحلية التي نظمت في طهران، أصفهان، وشيراز، وهي مجموعات محمية بموجب دستور جمهورية إيران الإسلامية، جنبا إلى جنب مع المسيحيين والزرادشتيين. الفقرة ال13 من الدستور تنص على أن اليهود “، وذلك في حدود القانون، أحرار في أداء الشعائر والطقوس الدينية، والتصرف وفقا للقانون الكنسي في أمور الأحوال الشخصية والتعليم الديني.” و”حدود القانون” حسب الدستور المذكورة هي قضية كبيرة حيث ينطبق على الشريعة الإسلامية التي حكمت البلاد منذ عام 1979. وبعبارة أخرى، على الرغم من كونهم أقلية معترف بها، اليهود الإيرانيين لا يزالوا تحت حكم القانون الإسلامي، وفي حال كسره هناك عواقب. ومن الأمثلة على ذلك قانون الإرث القمعي، الذي ينص على أن أي يهودي يعتنق الإسلام يرث أصول أسرته الممتدة تلقائيا، ويحتمل أن يتم إفقار العديد من العائلات اليهودية. خلال لقائي مع النائب اليهودي، الدكتور موريه، قال لي أن المسألة يجري تناولها في المحادثات بينه وبين النظام.

dsc02101-1024x682

تم أخذي لمركز الجالية اليهودية في طهران، ويقع في الطابق الثالث من مبنى حجري حديث في شارع الزاوية المتواضع في شمال طهران، الذي يعد موطنا لأكثر من 7000  من اليهود في المدينة. أرى كتابات بالعبرية على الجدران، رجل عجوز يصنع الشاي في مطبخ صغير هادئ، وعندما حييته بشالوم حدق في وجهي ، ثم سرعان ما تحول بظهره. تجاهلت ترجمة المسلم الذي أشار لي إلى غرفة في نهاية الممر، حيث رجل في بدلة زرقاء لامعة ويتكلم على الهاتف باللغة الفارسية على نحو سلس وسريع. وهو يورام، رئيس الجالية اليهودية. أسلم له بطاقتي الهوية السويدية وقال لي : “اتل الصلاة شيما”.
وأنا ألعن نفسي لأني لا أحفظ جيداً مقطع الفيهافتا من الصلاة”  هل تريدي أن أدعوك بأنيكا أو شانا؟” يورام يسأل ويبتسم لأول مرة في وجهي، وأنا اخذ زفير عندما أدرك أنني قد اجتزت الاختبار الأولي. مكتب يورام  مزخرف بشكل جميل. هناك جدول مؤتمرات كبير في وسط الغرفة. على رأسها نوعان من الأعلام الإيرانية وإطار ذهبي رسمت فيه صورة  موسى وآية الله.  قال لي يورام ، الحياة في بلاد فارس مختلفة جداً عن أي حياة أخرى في العالم”.

يهود إيران موالون للنظام، وكنا في الواقع أول من تطوع للحرب ضد العراق. ومعتقداتنا مختلطة بين التقاليد اليهودية والاسلامية، ونحن أقرب في  بعض النواحي للتقاليد الاسلامية حتى من اليهودية، حيث يحاكي عيد الفصح العطلة الفارسية للنوروز. نحن يهود إيرانيين، وهذا يعني  أننا ايرانيين أولا، ونحن أوفياء أولا وقبل كل شيء لهذا البلد في حين نحافظ على تعاليم التوراة في نفس الوقت. تدفقت الكلمات من فمه بطلاقة حتى أنك تشعر أنه لا يتعمد الحديث بها الا أنه مدرّب بشكل جيد وهو يتحدث عن الولاءات وأستطيع أن أفهم لماذا يفعل ذلك وأنا قد جلبت له مخبراً من النظام الى مساحته الخاصة . الحياة اليهودية هنا لها قواعد وتفاهمات شيدت بعناية، واحدة من المبادئ الأساسية تنطوي على الفصل بين اليهود و الصهيونية و تذهب  الى معاداة دولة اسرائيل.اضافة الى اثبات الولاء للنظام سواء في التطوع للحرب أو مشاركة النظام العداء لنفس الأعداء.  و أنا كيهودية أوروبية يمكنني أن أفهم تماما موقف اليهود. ومن الواضح أن المجتمع اليهودي يعيش مع مستوى ثابت من الشك تجاه الغرباء والدخلاء على حد سواء، ودائما هناك خوف من الغدر يشبه إلى حد كبير الخوف في الاتحاد السوفياتي، ومحاولة الناس التخلص من المخبرين، الجميع غير متأكد من كيفية معرفة الصديق من العدو. باختصار، لا توجد إجابات حقيقية، الحقيقة الوحيدة هي أنك لا يجب أن تخبر أحد بشئ و أنا أدرك أن هذا الرجل قد يدفع ثمن باهض لكل كلمة يقولها لي .

dsc02335-1024x682

سألت يورام عن إسرائيل، على الرغم من أنني أعرف أن الجواب سيكون مدروس و مكبل بالسلاسل التي يفرضها النظام الايراني الا أنني أردت أن أعرف ما تعنيه الدولة اليهودية لليهود الإيرانيين وإذا كان الحظر المفروض على السفر الى هناك قد رفع بالفعل، كما قال تقرير ايراني في عام 2013.
“نحن أحرار لزيارة اسرائيل، وبطبيعة الحال، بامكاننا أن نتحرك إذا كنا نريد، ولكن لدينا حياتنا وتاريخنا هنا”، كما يقول. “جاليتنا هي ثاني أقدم جالية يهودية في العالم، ونحن فخورون بأن نكون هنا، وفخورون جدا بهذا البلد.”
قبل أن أغادر،طلب مني يورام الانضمام إليه في الكنيس لحضور خدمة يوم السبت وبعد ذلك تناول العشاء في منزله القريب من أجل مقابلة المزيد من أعضاء المجتمع. يورام دعا مترجمي “المرافق المفروز من الدولة” الى العشاء كذلك و تظاهر بأن وجود الرجل هو أمر اختياري وليس رمزا للسلاسل التي لا يمكن كسرها. تقدمت نحوي امرأة مسنة سوداء الشعر يلوح  وجهها من وراء الجدار الفاصل بين الرجال و النساء وقدمت نفسها كأم يورام ، وخلال دقائق حييت  جميع النساء الأنيقات الجالسات في المكان. يقع كنيس أبريشامي منذ قرن من الزمان في شارع فلسطين في شمال طهران، في مبنى حجري جميل يتضمن مطعم كوشر جيد  موافق للشريعة اليهودية، وحمام تقليدي. أما الكنيس فيرحب بنحو 250 شخص، وملئه نفس من الدفء والخواء فيما يشبه المنزل لدرجة مدهشة، وصولا الى الموسيقى والشخصيات والوجوه المثيرة للفضول: النساء سألواني فوراً عن وضعي العائلي لمعرفة ما اذا كنت متزوجة أم لا، والرجال كانوا يغنون في تجانس مألوف والأطفال يركضون في ممرات الكنيس.  هنا طلبوا مني ” هل لك أن تصلي لأجلنا، من فضلك؟”
قلت الصلاة و وافقت بالطبع على الطلب.  بعد الصلاة اتجهنا الى منزل يورام لتناول العشاء، مشيت جنبا الى جنب مع النساء و هنا وجدت فرصة نادرة للانفراد بهن بعيداً عن عيون الرقيب لأسألهن  إذا ما سمح لهم حقا بزيارة إسرائيل أو حتى العمل على الحياة فيها.

كما أن أترك عائلة حين غادرت منزل العائلة كانت تضربني مشاعر متناقضة من الفرح و الحزن في ان معاً ..كنت سعيدة  لأني أقضي عشاء السبت في طهران مع الجالية اليهودية وحزينة لأني رأيت اليهود في إيران يتمتعون بحرية أكبر مما كنت أتمتع بها في أوروبا فكنسهم  دون حراسة، و هويتهم اليهودية معلن عنها بفخر. لكن حريتهم هذه موجودة داخل سجن كبير، لا يمكن اختراقه.  تركت إيران بقلب مثقل بالهموم، لأني  أعلم أنني قد لا يعود أبدا لرؤية الناس الذين أصبحوا كأسرتي. أنا قلقة فيما اذا كانوا سيتعرضون للأذى بسبب زيارتي. لم تكن إيران كما اعتقدت أنها ستكون، والحياة اليهودية فيها لم تكن كجهنم كما  اعتقدت، ولكن في نواح كثيرة كانت أسوأ وأكثر خبثا مما يمكن أن يتصوره المرء. فاليهود لا يتعرضون للاضطهاد من قبل ايران، لكنهم أبعد ما يكون عن الحرية. هم يعيشون في قفص مذهب مع بعض الحريات والحقوق التي يمكن أن تؤخذ منهم بناء على طلب من سيدهم دون سابق إنذار أو سبب.