مستقبل واحدة من أهم الجاليات اليهودية العربية مهددة بخطر الانقراض ، و الخطر هذه المرة ليس من الدولة الاسلامية “داعش” .
جربا ، تونس
شواهد القبور المتصدعة والمنتشرة في محيط المقبرة وراء الكنيس الكبير ترسخ حياة المجتمع اليهودي التونسي الصغير. المئات من اليهود الذين انتقلوا بعيدا على مدى العقود الخمسة الماضية أخذوا رفات أقاربهم معهم، ولم يتبق سوى هذه الألواح من الرخام منقوش عليها بالعبرية. “هناك رفات عمرها أكثر من 80 أو 90 عام و هي صعبة النقل لعتقها ” يقول يوسف صباغ 43 عام و هو مهتم بشؤون نقل رفات اليهود التوانسة الى اسرائيل حيث هاجر معظم أقارب أصحاب الرفات . هذه الرفات كانت يوماً ما للجالية اليهودية النابضة بالحياة التي بلغ عددهم يوماً 100000 في جميع أنحاء تونس. ولكن اليهود اليوم في جربة 1100 نسمة بعد أن تركها اليهود بسبب الاضطهاد الذي تعرضوا له عام 1940. أولئك الذين بقوا يشكرون جزيلاً على اصرارهم على البقاء في تونس و تركيزهم على بناء عائلات كبيرة بقيم أبوية. ولكن المجتمع يواجه الآن تحدياً آخر: النساء اليهوديات يستاءون من القيود والرجال يعانون من الاقتصاد التونسي المنهك. الانتقال إلى إسرائيل، حيث لليهود الحق في الجنسية تلقائيا، يمكنهم من حل هاتين القضيتين ولكن يكونوا بذلك أيضا قد قضوا على واحدة من اخر المجتمعات اليهودية في العالم العربي.
في أواخر شهر مايو، ملأت الحشود المزخرفة باللونين الأبيض والأزرق شارع شاغيرا المغطى وفيه كنيس في اخر الحارة، و شاغيرا هو واحد من اثنين من الجيوب اليهودية في جربة، ويعتبروا جزء من رحلة الحج السنوية التي اجتذبت الغرباء إلى الجزيرة. جموع الحجاج أوقدوا الشموع في الحرم وو ضعوا البيض المغطاة بأمنيات مكتوبة بخط اليد في كهف في طابق الكنيس. في الشارع المرصوف غنى المحتفلين وأكلوا الكسكس مع السمك، وشربوا الخمر و التين والبيرة في فناء مشمس مزين بالأعلام التونسية الحمراء. وكان هذا الحدث بمناسبة عيد لاج باعومر، الذي يكرم القرن الثاني لليهود الصوفي الحاخام شمعون بار يوشاي، و هذا تقليد تونسي بامتياز. الا أنه تم إلغاء هذا الاحتفال في عام 2011 وسط أحداث الثورة التونسية التي أطاحت بالرئيس زين العابدين بن علي، وهو الذي كان حامي السكان اليهود في البلاد . تم اعادة احياء هذا التقليد في ظل الحكومة الحالية في البلاد، والذي تثمن هذه الفعاليات و تعتبرها رمز للاستقرار ولكن ثلاث هجمات إرهابية كبيرة حصلت منذ بداية العام 2015 من قبل جماعة الدولة الإسلامية المتطرفة في موقع يبعد ساعة بالسيارة إلى الجنوب من جزيرة جربة مما أثار مخاوف السياح و المراقبين للوضع.
في اليوم الأول من الحج جاء عبد الفتاح مورو، نائب رئيس البرلمان ونائب رئيس حزب النهضة الإسلامي المعتدل، عانق الحاخام والمقيمين في جربة بالقرب من كنيس غريبة اليهودي.”، وقال مورو. “تونس حمت يهودها و ما يؤدي إلى التطرف هو وجود الثقافة الواحدة فقط. ووجود العديد من الثقافات يسمح لنا قبول الآخر”.
شعور بالأمان
زوار الحج مشوا من خلال جهاز الكشف عن المعادن ومروا بنقاط تفتيش تشرف عليها القوات الخاصة اضافة الى الشاحنات العسكرية التي كانت مدججة بالسلاح الثقيل. طائرة هليكوبتر كانت كذلك تستطلع من فوق. وكانت إجراءات أمنية مشددة قد اتخذت منذ تفجير شاحنة 2002عام قتل اثرها 21 شخص معظمهم من السياح في الكنيس. إلا أن كل ذلك لم يمنع الحكومة الإسرائيلية، في الأسابيع التي سبقت مهرجان غريبة اليهودي، من إصدار تحذير السفر لمواطنيها لتجنب تونس، ولكن يقول بيريز الطرابلسي، الرئيس البالغ من العمر 74 عاما لمهرجان غريبة اليهودي أن إسرائيل تصدر التحذير ذاته في كل عام منذ قيام الثورة. ويضيف بيريز”ليس هناك حقا أي خطر ، لدينا حرية المغادرة لكننا لن نذهب إلى أي مكان.” ومع ذلك، نقل طرابلسي قبر والده إلى إسرائيل قبل ثلاث سنوات. ويعيش أبنائه الستة في باريس. وقال منذ الثورة التونسية حوالي 30 من اليهود غادروا جربة الحاخام بيتان وغيره الكثير يفكرون في الانتقال الى اسرائيل ولكن ليس بسبب الخوف.
حجر أساس في القدس
بني كنيس غريبة اليهودي على الأسس التي يقول سكان محليون أنها تشمل حجراً من الهيكل الأساسي في القدس ولذلك لا تزال القدس حجر الزاوية في عقول يهود جربة. شيران الطرابلسي (23 عاما) تدرس الصف الرابع في الحارة الكبيرة و هي أكبر حارات جربا اليهودية. تتذكر شيران زيارة جديها في المدينة الساحلية عسقلان في عام 2006. وتقع معظم أعضاء الجالية اليهودية في تونس في اثنين من الاحياء في جزيرة جربة. تقول شيران “كنت في عالم مختلف كان هناك أشجار وكل شيء مزدهر وأخضر ونظيف وعندما وصلت إلى هنا، شعرت وكأنه لا يوجد لون في المدينة.” وقال الطرابلسي “يهود جربة يجب أن يتحركوا إلى إسرائيل بشكل جماعي “- على الرغم من ان شيران اعترفت انها لن تتحرك من دون والديها أو زوج المستقبل. يقول الحاخام المرأة يجب أن تعمل فقط داخل المجتمع، وهو أمر يهدف للحد من تعرضهم للعالم الخارجي. هذه القاعدة تقيد عملهم في التعليم ورعاية الأطفال، قص الشعر، وخياطة الملابس. وقالت معلمة رياض الأطفال يسكا مامو، 24 عاما، درست الاقتصاد في المدارس العامة، ولكن مثل معظم اليهود في جزيرة جربة، لم تذهب إلى التعليم العالي، “أنا أيضاً رغبت في الانتقال لإسرائيل، لأنه بعد العمل هنا لا يمكننا القيام بأي شئ سوى العودة الى الدار و التنظيف”. و هذه مرثية ترددها العديد من النساء اليهوديات الشابات، الذين يشكل وجودهم المفتاح لبقاء المجتمع الذي ينمو بفضل ما لا يقل عن 30 حالة ولادة في السنة. الشباب، أيضا يحلمون بالتحرك و الانتقال لكن مع التركيز على الأمن الاقتصادي.
الاقتصاد يلهم للهجرة
مثل الكثير من الرجال اليهود في جزيرة جربة، يوني حداد يعمل في تجارة المجوهرات. ومن المعروف أن المجتمع يعمل في الفضة،و أغطية الرأس المطلية بالذهب للزفاف والقلائد التي تحظى بشعبية عند العرائس المسلمين. وهي حرفة التي تم تناقلها من جيل إلى جيل .لكن في الزيارة الأخيرة لم يدخل سوى عدد قليل من الزوار الناطقين بالروسية للسوق المتواضع .
أصحاب المحال التجارية اليهود والمسلمين على حد سواء عانوا من خسائر فادحة حيث تخلى السياح عن تونس خوفا من الأوضاع الأمنية بعد أن هاجم مسلحون ينتمون لتنظيم داعش فندق بيتش في سوسة في الشمال في صيف عام 2015، مما أسفر عن مقتل 38 شخصا، معظمهم من السياح البريطانيين. أما حداد فلديه أقارب في القدس لكنه متردد في ترك منزله و أعماله في جربة. مع ذلك يفكر في الانتقال بالطبع، إلى إسرائيل اذ إنها المحطة الأخيرة. وقال يغال بالمور المتحدث باسم الوكالة اليهودية، وهي منظمة شبه الحكومية تشجع على الهجرة إلى إسرائيل، “هناك مستقبل ضعيف جدا لأي مجتمع يهودي في أي بلد عربي إلا إذا تغيرت الأمور بشكل كبير.الا أنه لا يعتقدو أن لليهود مستقبل حقيقي هنا. والجالية اليهودية في المغرب هي الوحيد في العالم العربي الأكبر من جالية تونس – ومعظمهم من كبار السن. بينما تضاءلت المجتمعات المصرية واللبنانية والسورية لبضع عشرات. كما رحل اليهود تماماَ من ليبيا والجزائر.
منزل في مكانين
بعد ظهر يوم الخميس، نظفت إلينور حداد، 16 عاما، مطبخ منزل عائلتها تحضيراً لعطلة نهاية الأسبوع. وكان أخوها الأكبر قد عاد قبل يوم واحد من رحلة لاسرائيل، وارتدت إلينور سوار جلبه لها أخوها من هناك. وقالت لا يمكنني القيام بنفس الرحلة لأن الحاخام بيتان حكم ضد سفر الفتيات السفر وحدهن. ولكن حان الوقت لزيارة إسرائيل.
لتجنب الاندماج التام في المجتمع التونسي، تتعلم الفتيات في المدرسة الثانوية منهج إسرائيلي. حداد يتحدث العبرية بطلاقة إلى جانب العربية كما تسربت الأعراف الإسرائيلية إلى حياتهم المنزلية كذلك حيث ليلة الجمعة عشاء في منزل حداد و هو عبارة عن وجبة الكسكس اليهودية التونسية التقليدية أما غداء يوم الخميس فهو شرائح الدجاج وهي وجبة إسرائيلية مشتركة ومستوردة من قبل المهاجرين اليهود الأوروبيين.
ليلة الخميس تجلس ايلانور مع الأصدقاء وراء الأبواب المغلقة و تقول الحج هو فرصة لرؤية الناس واذا أتيحت لي الفرصة للانتقال إلى إسرائيل واود ان اذهب، لكن كل شيء على مايرام هنا أيضا. أما صباغ فيفكر في الانتقال إلى إسرائيل ولكن تردد بسبب ارتفاع تكلفة المعيشة وعندما توفي والده طار صباغ وإخوته لإسرائيل ودفنوه في القدس و يرى صباغ ضرورة دفن موتى اليهود في اسرائيل أما بالنسبة للمقابر القديمة، فقال: “أعتقد أن على عظام البقاء في قبورهم”.